يتّصف بعض الاكتشافات بغرابة شديدة إلى حدّ أن فهم معناه بالكامل يستغرق سنوات، عقوداً، وأحياناً قروناً، ومنها الحقل الأحفوري الذي يُعرف باسم {بورغس شال} والذي يحتوي على سجلّ من المخلوقات الغريبة التي عاشت منذ 505 ملايين سنة. اكتُشف هذا الحقل في جبال روكي الكندية منذ قرن واشتهر في العام 1989 في كتاب بعنوان Wonderful Life لستيفن جاي غولد، عالم أحياء قديمة.


ساد اعتقاد لزمن طويل بأن الحيوانات المثيرة للفضول التي عاشت هناك انقرضت على مراحل لأن السجل الأحفوري انتهى. لكن لم يعد ذلك صحيحاً اليوم على ما يبدو.
 
ظهر حقل بورغس شال بعد فترة زمنية تُعرف باسم انفجار كامبري حين ظهر معظم أنواع الحيوانات المعقّدة الرئيسة على مدى فترة زمنية قصيرة على نحو مفاجئ. قبل 560 مليون عام، كان معظم الكائنات الحية إما خلايا فردية أو مستعمرات بسيطة من الخلايا. من ثم ولأسباب لا تزال غامضة، تنوّعت الحياة إلى حد كبير وأصبحت أكثر تعقيداً مع تنامي معدّل التطوّر. أحد مظاهر بورغس شال الغريبة أنه أحد الحقول الأحفورية الأولى التي تتضمن آثار الأجزاء الطرية من الحيوانات. أمّا أحد أسرار علم الأحياء القديمة المؤسفة فهو أن الأحافير لا تشكل سجلاًّ عن الحياة الماضية بقدر ما هي سجل عن الأجسام الصلبة التي عاشت في الحياة الماضية، أي تلك التي لديها عظام وهيكل.

على رغم أن الحقل الأحفوري اكتُشف على جبل، لكن حين كانت هذه الحيوانات على قيد الحياة، كانت تعيش تحت مياه محيط اندفع قاعه لاحقاً نحو الأعلى ليشكّل جبال روكي. لا أحد يعلم بالضبط لمَ حُفظت جيّداً. لكن أحد الاحتمالات يشير إلى أن هذه المخلوقات دُفنت بسرعة وفي ظروف لا تسمح بتحلّل أجزاء الأجسام الطرية بواسطة الجراثيم.


لقد افترض أولئك الذين عملوا أولاً على بورغس شال، بعد استخراجهم 65 ألف عيّنة على مدى 14 عاماً حتّى العام 1924، بأن الأحافير هي لأفراد منقرضة من المجموعات الحيوانية التي لا تزال موجودة إلى اليوم. لكن تبيّن أن هذه المعلومة مضللة لأن كثيراً من هذه المخلوقات في غاية الغرابة إلى حدّ يصعب تصنيفها.

 
فالأوبابينيا مثلاً كانت بطول يصل إلى ثمانية سنتيمترات، ولها خمس أعين، وجسم يتألف من فصوص كثيرة، وذيل على شكل مروحة وكانت تستخدم خرطوماً طويلاً لتناول الطعام. كان هذا الخرطوم يتألف عند طرفه من مخالب تُستخدم لالتقاط الطعام وحشوها في فم الأوبابينيا. في المقابل، كان النيكتوكاريس أشبه بعلقة لها زعانف ومجسات. أمّا الأغرب بين هذه المخلوقات فهو الهالوسيجينيا الذي وصفه سايمون كونواي موريس من جامعة كامبريدج. شكل هذا الحيوان محيّر بالفعل نظراً إلى أشواكه ومجساته المتعددة. في البداية، لم يستطع أحد معرفة أي جزء منه يتّجه نحو الأعلى وأي فتحة يدخل منها الطعام وأي واحدة يخرج منها، كما لو أنهم ينظرون إلى صورة تجريدية.




طالما اعتقد علماء الأحياء القديمة بأن كثيراً من حيوانات بورغس شال يشكّل أمثلة عن تجارب في التطوّر، أي أشكال حياة جديدة بالكامل لم تصمد طويلاً أو أدّت إلى ظهور مجموعات وأجناس أخرى. وللمفارقة، تبيّن أن الهالوسيجينيا الاستثناء الذي أثبت تلك القاعدة. يُعتقد اليوم بأنه سلف مجموعة حديثة من مفصليات الأرجل التي تتضمن جميع المخلوقات التي تتمتع بهيكل عظمي خارجي قاس بدءاً من الذباب والفراشات إلى الأم أربعة وأربعين والعقارب. هذا وتبيّن أن مخلوقات أخرى غريبة هي حيوانات مألوفة إنما متنكّرة.


هذا وقد أُبطلت أيضاً فكرة أخرى خاطئة. يفيد بيتر فان روي من جامعة يال وزملاؤه في مجلّة Nature بأن الغياب المفاجئ لمثل هذه الأحافير الغريبة ذات الجسم الطري لا يشير إلى عملية انقراض جماعية، وإنما إلى مجرّد نهاية لظروف محلية غير اعتيادية ساهمت في حفظ هذه المخلوقات. ففي منطقة جبال الأطلس في المغرب، وجد الباحثون تجمّعاً آخر مختلفاً (وأحياناً غريباً) من الأجسام الطرية من فترة يعود تاريخها إلى ما بعد حقل بورغس شال بقليل. تتضمن الاكتشافات كائناً قد يكون عبارة عن صدفة لها ساق، ما يدل على أن تطوّر مثل هذه الحياة المعقّدة تواصل من دون انقطاع. من جهته، يستمر حقل بورغس شال في إنتاج مجموعة مذهلة من المخلوقات الغريبة بوتيرة أسرع من قدرة علماء الأحياء القديمة على البحث فيها. لذلك لا يزال العالم يجهل الكثير عن هذه الحياة الرائعة.




















..~ فيما يلي صور لبعض الأحافير الغريبة التي اكتشفها الإنسان ~..